كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد استشكل تصديق هذه الآية للخبر من حيث أن الذي فيه قتل خاص وزنا خاص، والتقييد بكونه أكبر والذي فيها مطلق القتل والزنا من غير تعرض لعظم؟ وأجيب: بدفع الإشكال بأنها نطقت بتعظيم ذلك من سبعة أوجه؛ الأول: الاعتراض من بين المبتدأ الذي هو وعباد الرحمن وما عطف عليه والخبر الذي هو أولئك يجزون الغرفة على إحدى الروايتين بذكر هذه الثلاثة خاصة وذلك دال على مزيد الاهتمام الدال على الإعظام، الثاني: الإشارة بأداة البعد في قوله تعالى: {ومن يفعل ذلك} أي: هذا الفعل العظيم القبيح مع قرب المذكورات فدل على أن البعد من رتبتها فهو إشارة إلى جميع ما تقدم؛ لأنه بمعنى ما ذكر، فلذلك وحده وأدغم لام يفعل في الذال أبو الحارث والباقون بالإظهار، الثالث: التعبير باللقي مع المصدر المزيد الدال على زيادة المعنى في قوله: {يلق أثامًا} دون يأثم ويلق إثمًا أي: جزاء إثمه، الرابع: التقييد بالمضاعفة في قوله تعالى مستأنفًا: {يضاعف} بأسهل أمر {له العذاب} جزاء ما أتبع نفسه هواها، الخامس: التهويل بقوله تعالى: {يوم القيامة} الذي هو أهول من غيره بما لا يقاس، السادس: الإخبار بالخلود الذي أقل درجاته أن يكون مكثًا طويلًا بقوله تعالى: {ويخلد فيه} وقرأ يضاعف ويخلد ابن عامر وشعبة برفع الفاء والدال، والباقون بجزمهما وأسقط الألف من يضاعف مع تشديد العين ابن كثير وابن عامر فالجزم على أنهما بدلان من يلق بدل اشتمال، والرفع على الاستئناف، السابع: التصريح بقوله تعالى: {مهانًا} فلما أعظم الأمر من هذه الأوجه علم أن كلًا من هذه الذنوب كبير، وإذا كان الأعم كبيرًا كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم؛ لأنه زاد عليه بما صار به خاصًا فثبت بهذا أنها كبائر وإن قتل الولد والزنا بحليلة الجار أكبر ما ذكر فوجد تصديق الآية للخبر.
وقرأ حفص مع ابن كثير بصلة الهاء بالياء من فيه قبل مهانًا، فإن قيل: ذكر أن من صفات عباد الرحمن صفات حسنة فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا فلو كان الترتيب بالعكس كان أولى؟
أجيب: بأن الموصوف بتلك الصفات السابقة قد يكون متمسكًا بالشرك تدينًا وبقتل الموؤدة تدينًا وبالزنا تدينًا فبين تعالى أن المراد لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يجتنب تلك الكبائر، وأجاب الحسن بأن المقصود من ذلك التنبيه على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال تعالى: وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلهًا آخر، وأنتم تدعون ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموؤدة ولا يزنون وأنتم تزنون، ولما أتم تعالى تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه ترغيب الأبرار إلى العزيز الغفار بقوله تعالى: {إلا من تاب} أي: رجع عن كل شيء كان فيه من هذه النقائص {وآمن} أي: أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدونه وهو الإيمان وأكد رجوعه بقوله تعالى: {وعمل عملًا صالحًا} أي: مؤسسًا على أساس الإيمان، فإن قيل: العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح يستغني عنه؟
أجيب: بأنهما أفردا بالذكر لعلو شأنهما.
تنبيه:
اختلف في هذا الاستثناء على وجهين؛ أحدهما: أنه استثناء متصل وهو ما دل عليه كلام الجمهور لأنه من الجنس، والثاني: أنه منقطع ورجحه أبو حيان معللًا بأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف بخلافه في المنقطع، فإن التقدير لكن من تاب. إلى آخره، فلا يلقى عذابًا البتة، ووجه كلام الجمهور بأن ما ذكر ليس بلازم إذ المقصود الإخبار بأن من فعل كذا فإنه يحل به ما ذكر إلا أن يتوب وأما إصابة أصل العذاب وعدمه فلا تعرض في الآية له، ثم زاد تعالى في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطًا للجزاء بالشرط دليلًا على أنه سببه، فقال تعالى: {فأولئك} أي: العالو المنزلة {يبدل الله} أي: الذي له العظمة والكبرياء {سيئاتهم حسنات} قال ابن عباس ومجاهد: هذا التبديل في الدنيا فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيمانًا وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا إحصانًا وعفة، فكأنه تعالى يبشرهم بتوفيقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب.
وقال الزجاج: إن السيئة بعينها لا تصير حسنة فالتأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب مع التوبة حسنة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات، وقال سعيد بن المسيب ومكحول: إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية وهذا هو ظاهر الآية ويدل له ما روى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال له اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فيعرض عليه صغارها، فيقال له: عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم فلا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له: إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول: يا رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا، قال أبو هريرة: فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك حتى بدت نواجذه» {وكان الله} أي: الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق أزلًا وأبدًا {غفورًا} أي: ستور الذنوب كل من تاب بهذا الشرط {رحيمًا} به بأن يعامله بالإكرام كما يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة.
روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ولما نزل صدرها قال أهل مكة: قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله إلا من تاب إلى رحيمًا. روى البخاري في التفسير أن ناسًا من أهل الشرك كانوا قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، فأتوا محمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزلت هذه الآية ونزل {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله} (الزمر: 53).
{ومن تاب} أي: عن ذنوبه غير ما ذكر {وعمل} تصديقًا لادعائه التوبة {صالحًا} ولو كان كل من نيته وعمله ضعيفًا ورغب سبحانه في ذلك بقوله تعالى معلمًا أنه يصل إلى الله {فإنه يتوب} أي: يرجع واصلًا {إلى الله} أي: الذي له صفات الكمال فهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات {متابًا} أي: رجوعًا مرضيًا عند الله بأن يرغبه الله تعالى في الأعمال الصالحة فلا يزال كل يوم في زيادة بنيته وعمله فيخف عليه ما كان ثقيلًا ويتيسر عليه ما كان عسيرًا، ويسهل عليه ما كان صعبًا كما مرّ في أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم ولا يزال كذلك حتى يحبه فيكون سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها بأن يوفقه للخير فلا يسمع إلا ما يرضيه وهكذا، ولما وصف سبحانه وتعالى عباده بأنهم تحلوا بأصول الفضائل وتخلوا عن أمهات الرذائل ورغب في التوبة؛ لأن الإنسان لعجزه لا ينفك عن النقص مدحهم بصفة أخرى وهي الصفة المذكورة في قوله تعالى: {والذين لا يشهدون} أي: لا يحضرون {الزور} أي: القول المنحرف عن الصدق كذبًا كان أو مقاربًا له فضلًا عن أن يتفوهوا به للخبر فلا يسمعوا أو يقروا عليه في مواعظ عيسى ابن مريم عليه السلام إياكم ومجالسة الخطائين ويحتمل أنهم لا يشهدون شهادة الزور فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، وعن قتادة مجالس الباطل وعن ابن الحنفية اللهو والغناء، وعن مجاهد أعياد المشركين، ثم عطف عليه بما هو أعم منه بقوله تعالى: {وإذا مروا باللغو} أي: الذي ينبغي أن يطرح من الكلام القبيح وغيره {مروا كرامًا} أي: آمرين بالمعروف ناهين عن المنكر إن تعلق بهم أمر أو نهي إشارة أو عبارة على حسب ما يرون نافعًا، فإن لم يتعلق بهم ذلك كانوا معرضين عنه مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه والخوض فيه لقوله تعالى: {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} القصص، ومن ذلك الإغضاء عن الفواحش والصفح عن الذنوب والكناية عما ما يستهجن التصريح به، وعن الحسن لم تشقهم المعاصي، وقيل: إذا سمعوا من الكفار الأذى أعرضوا عنه، ثم ذكر الصفة الثامنة بقوله تعالى: {والذين إذا ذكروا} أي: ذكرهم غيرهم كائنًا من كان لأنهم يعرفون الحق بنفسه لا بقائله {بآيات ربهم} أي: الذي وفقهم ليذكر إحسانه إليهم في حسن تربيته لهم بالاعتبار بالآيات المرئية والمسموعة {لم يخرّوا} أي: لم يسقطوا {عليها صمًا} أي: غير واعين لها {وعميانًا} أي: غير متبصرين بما فيها كمن لا يسمع ولا يبصر كأبي جهل والأخنس بن شريق بل خروا سامعين بآذان واعية مبصرين بعيون راعية، فالمراد من النفي نفي الحال وهي: صمًا وعميانًا دون الفعل وهو الخرور، فالمراد نفي القيد دون المقيد كما تقول: لا يلقاني زيد مسلمًا هو نفي للسلام لا للقاء، الصفة التاسعة المذكورة في قوله تعالى: {والذين يقولون} أي: علمًا منهم بعد اتصافهم بجميع ما مضى أنهم أهل للإمامة {ربنا هب لنا من أزواجنا} اللاتي قرنتهن بنا كما فعلت بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم فمدحت أزواجه في كلامك القديم، وجعلت مدحهن يتلى على تعاقب الأزمان والسنين {وذرياتنا قرة أعين} لنا بأن نراهم مطيعين لك ولا شيء أسر للمؤمن من أن يرى حبيبه يطيع الله تعالى، وعن محمد بن كعب ليس شيء أقر لعين المؤمن من أن يرى زوجته وأولاده يطيعون الله، وعن ابن عباس هو الولد إذا رآه يكتب الفقه وخصوا الأزواج والذرية بذلك؛ لأن الأقربين أولى بالمعروف.
تنبيه:
من في قوله تعالى: {من أزواجنا} يحتمل أن تكون بيانية كأنه قيل: هب لنا قرة أعين، ثم بينت القرة وفسرت بقوله: من أزواجنا وذرياتنا، ومعناه أن اجعلهم لهم قرة أعين وهو من قولهم رأيت منك أسدًا أي: أنت أسد، وأن تكون ابتدائية على معنى هب لنا من جهتهم ما تقر به عيوننا من طاعة وإصلاح وأتوا بجمع القلة في أعين؛ لأن المتقين الذين يفعلون الطاعة ويسرون بها قليلون في جنب العاصين، وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أزواجهم وذريتهم في الجنة ليتم لهم سرورهم ووحد القرّة لأنها مصدر، وأصلها من البرد لأن العرب تتأذى من الحر وتتروح إلى البرد وتذكر قرة العين عند السرور وسخنة العين عند الحزن ويقال: دمع العين عند السرور بارد وعند الحزن حار، وقال الأزهري: معنى قرة العين أن يصادف قلبه من يرضاه فتقر عينه عن النظر إلى غيره، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص بألف بعد الياء على الجمع والباقون بغير ألف على الإفراد {واجعلنا للمتقين إمامًا} أي: أئمة يقتدون بنا في أمر الدين بإضافة العلم والتوفيق للعمل فاكتفى بالواحد لدلالته على الجنس ولعدم اللبس كقوله تعالى: {ثم يخرجكم طفلًا} [غافر].
أو أرادوا واجعل كل واحد منا أو أرادوا جمع آم كصائم وصيام أو أرادوا اجعلنا إمامًا واحدًا لاتحادنا واتفاق كلمتنا، وعن بعضهم في الآية ما يدل على أن الرياسة في الدين يحسن أن تطلب ويرغب فيها، وقال الحسن: نقتدي بالمتقين ويقتدي المتقون بنا، وقيل: هذا من المقلوب، أي: واجعل المتقين لنا إمامًا واجعلنا مؤتمين مقتدين بهم، وهو قول مجاهد، وقيل: نزلت هذه الآية في العشرة المبشرين بالجنة، ولما بين تعالى صفات المتقين المخلصين بين بعده إحسانه إليهم بقوله تعالى: {أولئك} أي: العالو الرتبة العظيمة العظيمو المنزلة {يجزون} أي: فضلًا من الله تعالى على ما وفقهم له من هذه الأعمال الزاكية والأحوال الصافية {الغرفة} أي: الغرفات وهي العلالي في الجنة فوحد اقتصارًا على الواحد الدال على الجنس والدليل على ذلك قوله تعالى: {وهم في الغرفات آمنون} سبأ، وقيل: هي من أسماء الجنة، ولما كانت القرب في غاية التعب لمنافاتها لشهوات النفس وهواها وطبع البدن رغب فيها بأن جعلها سببًا لهذا الجزاء بقوله تعالى: {بما صبروا} أي: أوقعوا الصبر على أمر ربهم ومرارة غربتهم بين الجاهلين في أفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وغير ذلك من معالي خلالهم، ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالكرامة والسلامة.
قال تعالى: {ويلقون فيها} أي: الغرفة {تحية} أي: دعاء الحياة من بعضهم لبعض ومن الملائكة الذين لا يرد دعاؤهم ولا يمترى في إخبارهم، لأنهم عن الله تعالى ينطقون وذلك على وجه الإعظام والإكرام مكان ما أهانهم عباد الشيطان وقيل: ملكًا وقيل: بقاءً دائمًا {وسلامًا} أي: من الله والملائكة وغيرهم وسلامة من كل آفة مكان ما أصابوهم بالمصائب: اللهم وفقنا لطاعتك واجعلنا من أهل رحمتك وارزقنا مما رزقتهم في دار رضوانك يا أرحم الراحمين، وقرأ حمزة والكسائي وشعبة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف من لقي كما قال تعالى: {فسوف يلقون غيًا} مريم، والباقون بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف أي: يجعلهم الله تعالى لاقين بأيسر أمر كما قال تعالى: {ولقاهم نضرة وسرورًا} الإنسان.